البُرْص
هناك، حيث يسكن سلطان، مفترق طرق. وساقية مهجورة يعيش في
بطنها، مع الجرذان والأفاعي، وجنيّة تدلِّك ظَهرَه كل مساء. قبل عشرين عاما سكن
الساقية عفريت من الجن، سلسلها بماء مَهِين، تسرَّب إلى الأراضي الزراعية، فدعى
الجراد إليها. ولم تفلح محاولات أهل القرى في صدِّهم، كانوا يشعلون النار في
البراميل والأطباق البلاستيكية الكبيرة، ويهببون السماء بالدخان والروائح العفنة،
يشعلون الشابة والفاسوخ، وينثرون الشيح في الشوارع وعلى الجدران، ولم يقترب أحد من
الساقية المهجورة من بعدها، لكن الجراد مأمور؛ أكلها، وحولها لعانس وهبت نفسها
للعفاريت. الجنيّ الأول أنجب امرأة، عاشت في الساقية، يقول أهل البلدة إن سلطان
يضاجعها كل ليلة، وتهبه من سحرها فيغفل الناس عن وجهه المطبق القبيح، وعينيه
الجاحظتين. الشوارع التي ذوبها لم تنظر لوجهه، لم تخبئه بين أشجارها وعششها، ولم
تناوله النساء شربة ماء. كل نهار، يتسلق سَلَبَةً طويلة، يزيل العماص من عيني
الشمس، يركب دراجته، ويحمل أمامه مِسَنًّا صغيرًا، يهيم في البلاد، يسنُّ السكينَ
ويسِنُّ المقصَّ.
وهناك في بيت
نيّء مظلم، تمسك الجدة سكينًا، بينما تقف صغيرتها الخائبة في الركن، تخاف أن تذبح
بطة سوداء وضعت الفول المبلول في حلقها على مدار شهر. الجدة تلوِّح بالسكين في وجه
الفتاة، تحذرها: "اليوم هو موسم البط، ولن أدعك تأكلين نسيرة منها إلا إذا
أمسكتِ رقبتَها، وستبقين مسمومة، ولن يقترب أحد من باب البيت لخطبتك". وارتفع
نداء سلطان المبحوح فوضعت الأم السكين في يد ابنتها، وأمرتها أن تخرج من البيت،
وتلاحق هذا الولد، ولا تعود إلى البيت والسكين ثلمة. جلست الأم مع حماتها، والبطة
مقيدة من رجليها، في حوش صغير، تنتظران عودة الفتاة.
كانت خائفة،
تسمع حكايات كثيرة عن هذا الرجل، يقولون إن الجنية تحمله على جناحيها، وتطوف به
القرى والبلدان، يسرق الأطفال في شوال على ظهره، لتأكلهم في الساقية المهجورة.
يقولون إنها حامل بولد، رآها أحدهم – قبل أن يموت على يدها- تجلس ببطنها الكبير،
تلعق سكاكين سلطان، ولم يعرفوا من أين وصلهم الخبر. يا للقرف، قالتها الفتاة، وهي
تنظر إليه، يؤذن في الناس فتخرج النساء من بيوتها، ويترك الجزارون المسنون
دكاكينهم، ويلهثون وراء مِسَنِّ هذا الولد. التفَّ حشد الناس حوله، وكان العدد
يزداد مع مرور الوقت، وهي واقفة في مكانها، تخاف أن تقترب. ترى سلطان يمسك سكينًا،
ويقربه من وجهه، يوشوشه بكلمات غريبة، كأنها تعويذة، ثم يقبِّله ويضعه على المسن،
ويدير العجلة، فيبدأ القرص في اللف، وتبدأ شرارة صغيرة تهرب من تحت يديه، كأن
السكين يئن، يضغط على نصله، فيخرجه عريسًا، حادًا، يسرق رقاب الدواب والطيور،
رحيمًا، لا يؤذي إنسيا. في هذه اللحظة، شعر سلطان بنفخة ساخنة في أذنه، توجهه إلى
حائط بالقرب منه. ورأى برصًا يركب طائرة مرسومة على الحائط، ومتجهة إلى بيت الله
الحرام. حدَّق سلطان في الحائط، ورفع السكين من على القرص، راقب البرص وهو يلهو،
من طائرة لسفينة، يمشي على حروف الآيات القرآنية المكتوبة على الحائط، يقفز على
الكعبة، وعلى رؤوس الحُجَّاج، ثم إلى مقام إبراهيم. هنا، يعدو سلطان وراءه، يحاوطه
بالسكاكين، ويترك الحشد. تتبعه الفتاة المذعورة بسكينها، تختبئ بالقرب منه، فتراه
يقترب من البرص، ومن السكين المغروس في ذيله، ثم يمسكه من رأسه ومن ذيله، يوشوشه،
تقترب منه الفتاة، وتسمعه "أخيرًا وقعت يا جبان!".
لم يتوقع أحد ما فعله سلطان، ولم يفترق الحشد عندما رآه
لاهثًا، فرحًا، يضع البرص في قنينة زجاجية، أخرجها من كيس مصرور، ويأخذ الدراجة
ويترك الحشد والسكاكين، ويعود إلى الساقية المهجورة. الفتاة بكت جوار الجدار، كانت
ترتعد تمامًا وتفكر ماذا ستفعل جدتها بها، ومن أين سيأتي العرسان لها، ربما تحرمها
من الطعام أو المصروف، أو تمنعها عن لعب الغلاء بالخارج، وربما تلقي بها في نار
الفرن الطيني، حيث تجلس دومًا، وتبصر نساء الجن. قررت أن تعدو وراء سلطان، رغم
خوفها من عضته ومن الجنية الجائعة. وفي الطريق، حمل سلطان البرص حول رقبته. كان
يحرص أن يكون قريبًا منه، يريد أن يعرف، أين اختبأ كل تلك السنوات. هل هاجر إلى
بلاد بعيدة، واختبأ في لحاء الأشجار. لكن السؤال الذي حيره لم يكن بسيطًا، من أين
أتى بهذه الشجاعة، ولماذا فعل ذلك؟ لم يرد البرص على سلطان رغم تكراره للأسئلة،
وفي النهاية وعده بالأمان، ولم يكن صادقًا.
توقَّف ليقضيَ
حاجتَه أسفل شجرة، ورأى ظل الفتاة يطارده، اقترب منها، فأشهرت السكين في وجهه.
تشعر بالرعب، ويشعر بالتوجس. شم سكينها وعرف أنها باردة. قالت إن جدتها ستعاقبها.
خمس دقائق يسن السكين ويكلم البرص، والفتاة يزرق جفنها من الخوف.
"ألم تعرفيه؟"
قالت: مجرد برص.
رد عليها غاضبًا " ليس مجرد برص، بل برص إبراهيم،
ظل خالدًا طوال تلك السنين، ظل هاربًا، ووقع في يدي!"
خطفت الفتاة سكينها وركضت نحو البيت. مستها الحمى ثلاث
ليال، ظلت تهلوس: البرص الذي نفخ النار على سيدنا إبراهيم معه في الساقية
المهجورة، اقتلوه، أنا خائفة يا أمي. الجدة تسمع كلام الفتاة، وتقرر أن تخرج
بنفسها لهذا البرص، وتعرف ماذا فعل بحفيدتها. هناك تحت الشجرة، تسمع صوته المبحوح،
تخرج بجلباب أسود، ورأس معصوب. توقف سلطان، وتسأله عما فعل بحفيدتها. يرد عليها
قائلًا "الفتاة رأت، ولم تكذب قلبها!". ثم أخرج القنينةَ من الكيس
المصرور حول رقبته، وأراه لجدتها، فاحمر وجهها غضبًا، ولطشت القنينة وأوقعتها على
الأرض. صرخ فتجمع الناس حولهما. قال لهم إنه البرص الملعون، أمسك به بعد سنوات
طويلة اختبأ فيها من البشر. بينما حمل أحفاده خطيئته، فالتصقوا بالأحذية والجدران،
وهرست ذيولهم وتناثرت دماؤهم بين البشر. صاح فيه الناس، "يا مجنون!". لم
يصدقه أحد، إلا رجل بلحية سوداء، سرق القنينة الزجاجية، وحاول أن يكسرها، ليقتل
البرص. لكن سلطان قاتل، قفز على الرجل ولكمه في جسده، عضّه من أذنه، فتسربت الدماء
على خده، بينما نهضت الفتاة، وشاهدت ما حدث من سطح بيتها.
ظل سلطان يحوم
حول القرى، يسن السكاكين، ويعرِّف الناس على البرص. وظل الناس ينعتونه بالجنون،
ولم يسلم من الرجل ذي اللحية السوداء؛ ظل يطارده من بلدة إلى أخرى، ومن حفرة إلى
دحديرة، يحاول قتل البرص. وفي يوم، لم ير الرجل القنينة الزجاجية معلقة حول رقبة
سلطان، خمن أنها في الساقية المهجورة. فكِّر كثيرا، وقرر أن يتسلل إليها وقت الظهيرة، حيث يختبئ الناس من
لسعة الشمس. حزَّم نفسه بجلبابه، تمسك بالسَّلَبَة ونزل إلى بطنها. وهناك وجد
الجنية بانتظاره، وعاد إلى الناس درويشا، يسكن المقامات والمقابر، ويدعو الناس للإيمان.
انتشرت
الأقاويل في البلاد، وتزايدت الوفود إلى الساقية المهجورة، ليتشاوروا في أمر البرص.
كانت ليلة جمعة، هلالها بازخ، ينير الأرض مع مشاعل الحشد الكبير. خرج سلطان مع
البرص أخيرًا، انتظر الناس خروج الجنية، فلم تخرج. وتزينت في مرآتها بانتظار سيدها.
ارتفعت صرخات الناس. طالبوا بقتل البرص والثأر لسيدنا إبراهيم. قال أحد الرجال:
"إذا تركناه يمرح في الأرض سيكون إبليسَ جديدًا"، وقال آخر: "لو
قتلناه نأخذ حسناتِ كافيةَ فندخل الجنة"، وقال شاب صغير: "نعصره ونعالج
الأكمْهَ والأبرص". صاح سلطان فيهم: "ولماذا لا نحاكمه، ربما يمتلك حجة،
أريد أن أعرف لماذا فعل ذلك". انتشر الهرج بينهم، وانهالت الشباشب على رأسه
من كل اتجاه. حتى جاء الدرويش يخترق الصفوف، ومعه الفتاة الصغيرة وجدتها، فهدأ
الحشد وترقَّب. وخرج النور من فم الفتاة: "أشعل البشعة.. قضي الأمر".
أشعل الناس النار وجلسوا في الصفوف. بينما دفن الدرويش
طاسة البشعة في النار، وكتب في ورقة صغيرة الجريمة التي ارتكبها هذا البرص، ثم
دفنها كالحصاة بالقرب من الموقد. كان سلطان شاردًا، ينظر في عيني البرص فيرى ألسنة
النار تعلو، مع نفخة الكير. كان أبوه حدادًا، لكن باب الحداد مخلع، من أجل ذلك
أخذه إلى المعلم حافظ، ورآه سلطان يدق على الحديد، يلينه ويشكله مثلما يشاء كقطعة
طين. تعلَّم الحدادة على أصولها، كيف يصنع البواباتِ والنوافذَ بأشكال جديدة، كان
بارعًا، وكان يحب الرسم وخرط الحديد. لم ينس عندما رأى "سكينة"، ابنة
المعلم، للمرة الأولى، كبّت الشاي في حجره وركضت إلى الخارج. ولم ينسَ حين طلبت من
أبيها يدا جديدة للهون، فرجع إلى عشته القديمة، وجلس أمام المنفاخ والمطرقة، أشعل
النار من أجل عينيها، وظل ينفخ فيها. صنع عروسًا تشبهها وأهداها إليها في الصباح.
رأى أبوها اليد فاشتعل غيظًا، واعتقد أنه يشاغلها. أمسك يد الهون ودغدغ بها رأسه
وطرده من البلدة. وظل يردد بصوت ساخط "اذهب أيها البرص". سلَّط عليه طوب
الأرض، الكلابَ والشمامين، حتى سكن الساقية، وقابل هذا المخلوق الصغيرَ، المسكين،
الذي ينظر إلى الطاسة الحمراء، يُخرج لسانه مستسلمًا. يلعقها ثلاث مرات، على مرأى
من الحشد الصامت. لم يتألم البرص، لم يبكِ، أخرج لسانه الوردي للحشد مرة ثانية،
وقرَّبه من الدرويش الذي هلَّل ورقص، وتركه يذهب لحال سبيله. لكنه نظر إلى سلطان
نظرة أخيرة، واتجه إلى ألسنة النار وقفز فيها.














