الأربعاء، 20 نوفمبر 2019

قصة الإبريق، من مجموعة "ست زوايا للصلاة" الحاصلة على منحة آفاق للكتابات الإبداعية والنقدية، منشورة في جريدة أخبار الأدب المصرية


الإبْريق



اليوم هو سبت البِشارة؛ فوق أسطح البيوت الطينية ملاءات بيضاء، تنشرها النساء فوق واجهات البيوت، وعليها بقعة كبيرة، فعلها الرجال بالليل. كل امرأة تتفاخر برَجُلِها تحت عين الشمس، وأمام أعين الجيران. تدق الأهوان سبع دقات بالعدد. تُملأ الأباريق بماء الورد، وتوضع على صينية نحاسية في المنادر وقاعات النوم. تبخّر البيوت باللبان الدكر، استعدادا لمجيء "أم قويق"، ستعدل الميزان. كل النساء في انتظارها.
عندما تتجلى، يحرّم الجدل على الرجال وتتكلم النساء، يرتدين الجلاليب والعباءات الصوفية، ولا يرتدين حمالات الصدر. يرأسن مجالس الرقص والغناء، يطبخن الكوارع ويخبزن الفطير المشلتت. لا تضاجع امرأة رجُلَها. لا يقربها ولا يشم ريحها. يشرب الرجال الماء الوفير، من الإبريق، كل ليلة، ولسوء حظ نجية لم تجد بشارتها؛ صحت من النوم تتحسس السرير الجاف، وتنخس رجلها حَرْبي بقوة، عرف أن هناك مصيبة حطّت على رأسه، أدركها مباشرة عندما قفز على الأرض ونظر إلى سريره، وبدأ يرجوها أن تستره، وألا تنشر الملاءة نظيفة، ونجّية امرأة مؤمنة، لا تخالف الطقوس ولا تتعدي على حرمتها، حاول أن يفعلها، اقترح على نجية أن تفعلها، لكنها انتزعت الملاءة، ونشرتها على سطوح البيت. خبأتها وراء ملاءة أبيه، ظنّت أن الأعين ستغفلها، وأن رجُلها قد ينجو. لم يستطع معارضتها، فالأسبوع أسبوعها، أما بقية الأيام فيملكها ويمسكها من لجامها. خرج غضبانَ، مشى في الشوارع لا يعرف إلى أين، والريح شديدة، تحمل أسرار الناس معها. على لسان جارته انتشر خبره، صار لبانة تلوكها أفواه النساء، أعين ترصده، أعين واسعة، تعدّ خطواته، أنفاسها في الهواء. أم قويق. الكل يعرفها، ولا يستطيع أن ينكرها أحدٌ. في الهواء رائحة تشبه الكمون، تفوح من الأشجار والنخيل، ومن أبراج الحمام والزرائب، كل شيء في القرية يعلن عن وجودها، حتى السماء أمطرت ورعدت، على رأس حربي، فقرر العودة إلى البيت مختبئًا أسفل سعفة نخل، آمنًا من المطر ومذعورًا من الطقس: سعف النخيل.. في أيدي الجميع، الصغار يتسلقون النخل، وكل فتاة تنتظر غصنها. موكب العجائز اتجه إلى شجرة الكافور العظيمة، جلست النساء حولها متشابكة الأيدي، ومكشوفة الرأس. أغمضن أعينهن، وبدأن في الغناء والتمايل حولها، صوت جميل يعلو فوق صوتهن، لأكبر امرأة في القرية، تجلس أمام الشجرة، تتمايل يمينًا ويسارًا، كطائر يعرف أسرار السماء، تطلق التسابيح والصلوات بصوتها الحلو، حتى أظلمت الشمس، وظهر القمر بدرا فوق شجرة الكافور. لمس نوره أعين النساء حولها، فأطلقن الزغاريد، ورفعن سعف النخيل الذي امتص الضوء، وأنار الطريق إلى المندرة الكبيرة. النساء والصبايا انتظرن الزغاريد، وقفن على أسطح البيوت حتى رأين السعاف المضيئة، ودقت الأهوان مع الطبول، وسبعة من النساء رقصن إلى المندرة.
الأصوات هزت رأس حربي، صوتٌ دافئ أمره بالمثول أمام شجرة الكافور العظيمة، لم يستطع تجاهل الأمر، وجد نفسه يشرب من الإبريق ثم يخرج من البيت، يتخبط في الحوائط ويتعثر في جرائد النخيل الملقاة في الشوارع، حتى رأى سعفة مضيئة، تتبعها نحو الشجرة، كاد يلمسها لولا يد العم التي امتدت، نهَرَه قائلًا "عليكِ أن تهرب، أيام وتنتهي الخرافة"، كشك مهجور في آخر القرية، هناك أخذه العم، وهناك سيعد حربي الأيام ويهرب من الظلال، وظلها على الحائط، أم قويق تريده، تنتظره، غيط القصب يصدر همسات، يتلفت حربي في كل مرة يحاول فيها التبول أمام الحائط المتهدم. يقف لمدة طويلة، ويشعر بسن موس حاد، فتنزل قطرة أو قطرتان بالكاد. يفترش على الدكة في انتظار الشمس، لكنها تظل على غيابها. ليلة بعد ليلة ولا أثر للضوء. يأتي العم برفقة بعض الرجال، كان عددهم اثنى عشر رجلًا، معهم العريس الجديد، سيدخل على ابنة العم في نهاية الأسبوع، ولابد من دم ليطرد الشر بعيدًا.
جلسوا بالقرب من الكوخ والجوزة في يدهم، تنتقل من رجل إلى آخر. يصطفون على جذع نخلة ملقًي بالعرض، وحربي في منتصفهم. يأخذ الجوزة ويشد الدخان. لا يسعل، لا يبدي فَزَعًا، لكنهم يعلمون ما في صدره. مسكين لا يقدر على التبول، مريض، وليس على المريض حرج في وقت غير الآن. يقول أحدهم مهونًا "لا تصدق حكاية أم قويق، إنها خرافة، ندع نساءنا تفرح وترقص، فينسين وجودنا قليلا". رغم ذلك يفتخر كل رجلٍ بالبقعة الكبيرة التي تركها على الملاءة البيضاء، يقول العم "ابنتي، رفعت ملاءتي دون أن تتقزز، علقتها عاليًا"، حلقت الحمامات فوق الملاءة، في السماء، وسبحت باسم الله، لم تسبح باسم أم قويق. قال رجل "لأنها كذبة"، سنوات قديمة والقرية تداوم على هذا الفعل، لم يشهد أحدٌ تجليها، سكن الكفر قلوبهم، لكن ألسنتهم ظلت على خرسها، لم يجرؤ رجل على الصراخ، حربي وحده من صاح "إذا كانت تريدني فلتأتِ إليّ، تعالي وخلصيني من آلامي"، بلورات صلبة صغيرة في مثانة الرجل، بلورات من ماس، أو ذهب، أو ملح، تريدها لنفسها، أم قويق, العم أخذ الجوزة وقال "لن تأتي إليك، لا تفزع، سنظل معك الليلة إلى نهايتها"، لكن الرجال، مع انطفاء الحجر، شعروا برغبة في النعاس، وأرادوا أن يهربوا بعيدًا عن ضوء القمر، الماسي. وحده العريس ظل مع حربي، وقال "لا تخف، سأقودك إلى كوخك ولن تأتي إليك"، لا تخرج أم قويق إلى رجُلَين، تخاف الأرقام الزوجية، وتحب ما هو مفرد. لا خوف عليهما الآن، فالله معهما. أسفل ضوء القمر، في منتصف الطريق، رغم أنفاسها الساخنة التي تفوح من كل مكان، ولا مكان أو زمان يتسع لها، قال العريس "سأنتظرك في عرسي، سنطلق النيران ونرقص بالعصيان معًا"، قبلة تركها العريس على خد حربي، وقال "سأباركك، وأنتظرك لتباركني"، لم يطل الطريق بعد هذه القبلة، وصل كل منهما إلى مراده.
عاد العريس وحده من الطريق، يدندن لحنًا قديمًا. لم يشهد أحدٌ حربي. لم تنتظره نجية في العرس، رقصت مع النساء، والأعيرة النارية في الهواء، الرجال يضربون بعضهم بالعصيان، والعم يجلس فخورًا بما فعل، عذراء هي الابنة، والليلة ليلتها. ملاءات بيضاء نشرتها النساء فوق البيوت، واليوم يرتفع المنديل بالبقعة الحمراء.








هناك تعليق واحد:

قصة "البرص"، من مجموعة "ست زوايا للصلاة"، الفائزة بمنحة آفاق للكتابة الإبداعية والنقدية، منشورة في مجلة الهلال.

البُرْص هناك، حيث يسكن سلطان، مفترق طرق. وساقية مهجورة يعيش في بطنها، مع الجرذان والأفاعي، وجنيّة تدلِّك ظَهرَه كل مساء. ...